فصل: النوع السادس: في عطف المظهر على ضميره والإفصاح به بعده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.القسم الثاني: في الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر:

وهذا القسم كالذي قبله في أنه ليس الانتقال فيه من صيغة إلى صيغة طلبا للتوسع في أساليب الكلام فقط، بل لأمر وراء ذلك وإنما يقصد إليه تعظيما لحال من أجري عليه الفعل المستقبل وتفخيما لأمره، وبالضد من ذلك فيمن أجري عليه فعل الأمر.
فمما جاء منه قوله تعالى: {يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله وأشهدوا إني بريء مما تشركون} فإنه إنما قال: {أشهد الله واشهدوا} ولم يقل وأشهدكم ليكون موازنا له وبمعناه لأن إشهاده الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم، ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم، ولذلك عدل به لفظ الأول، لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه: اشهد علي أني أحبك، تهكما به واستهانة بحاله.
وكذلك يرجع عن الفعل الماضي إلى فعل الأمر، إلا أنه ليس كالأول، بل إنما يفعل ذلك توكيدا لما أجري عليه فعل الأمر، لمكان العناية بتحقيقه، كقوله تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} وكان تقدير الكلام أمر ربي بالقسط وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد فعدل عن ذلك إلى فعل الأمر، للعناية بتوكيده في نفوسهم، فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده، ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عمل القلب إذ عمل الجوارح لا يصح إلا بإخلاص النية، ولهذا قال النبي: «الأعمال بالنيات» واعلم أيها المتوشح لمعرفة علم البيان، أن العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلك، وهو لا يتوخاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة، الذي اطلع على أسرارهما، وفتش عن دفائنهما، ولا تجد ذلك في كل كلام، فإنه من أشكل ضروب علم البيان وأدقها فهما، وأغمضها طريقا.

.القسم الثالث: في الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي:

فالأول الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي: اعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذاك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي، وربما أدخل في هذا الموضع ما ليس منه جعلا بمكانه، فإنه ليس كل فعل مستقبل يعطف على ماض بجار هذا المجرى.
وسأبين ذلك فأقول: عطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين: أحدهما بلاغي، وهو إخبار عن ماض بمستقبل، وهو الذي أنا بصدد ذكره في كتابي هذا الذي هو موضوع لتفصيل ضروب الفصاحة والبلاغة، والآخر غير بلاغي، وليس إخبار بمستقبل عن ماض، وإنما هو مستقبل دل على معنى مستقبل غير ماض ويراد به أه ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض فالضرب الأول كقوله تعالى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور} فإنه إنما قيل: {فتثير} مستقبلا وما قبله وما بعده ماض، لذلك المعنى الذي أشرنا إليه، وهو حكاية الحبل التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية كحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك.
وعلى هذا الأسلوب ما ورد من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه في غزوة بدر: فإنه قال: لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص وهو على فرس وعليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: أنا أبو ذات الكئوس، وفي يدي عنزة فأطعن بها في عينه، فوقع وأطأ برجلي على خده حتى خرجت العنزة متعقفة، فقوله فأطعن بها في عينه، وأطأ برجلي معدول به عن لفظ الماضي إلى المستقبل، ليمثل للسامع الصورة التي فعل فيها ما فعل من الإقدام والجراءة على قتل ذلك الفارس المستلئم، ألا ترى أنه قال أولا: لقيت عبيدة بلفظ الماضي، ثم قال بعد ذلك: فأطعن بها في عينه، ولو عطف كلامه على أوله لقال: فطعنت بها في عينه.
وعلى هذا ورد قول تأبط شرا:
بأبي قد لقيت الغول تهوي ** بسهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلا دهش فخرت ** صريعا لليدين وللجران

فإنه قصد أن يصور لقومه الحال التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها مشاهدة، للتعجب من جراءته على ذلك الهول، ولو قال فضربتها عطفاً على الأول لزالت هذه الفائدة المذكورة.
فإن قيل إن الفعل الماضي أيضاً يتخيل منه السامع ما يتخيله من المستقبل.
قلت في الجواب: إن التخيل يقع في الفعلين معا، لكنه في أحدهما- وهو المستقبل- أوكد وأشد تخيلا، لأنه يستحضر صورة الفعل حتى كأن السامع ينظر إلى فاعلها في حال وجود الفعل منه ألا ترى أنه لما قال تأبط شرا فأضربها تخيل السامع أنه مباشر للفعل، وأنه قائم بإزاء الغول، وقد رفع سيفه ليضربها، وهذا لا يوجد في الفعل الماضي، لأنه لا يتخيل السامع منه إلا فعلا قد مضى من غير إحضار للصورة في حالة سماع الكلام الدال عليه، وهذا لا خلاف فيه، وهكذا يجري الحكم في جميع الأبيات المذكورة، وفي الأثر عن الزبير رضي الله عنه وفي الأبيات الشعرية.
وعليه ورد قوله تعالى أيضاً وهو: {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من القول واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} فقال أولا: {خر من السماء} بلفظ الماضي، ثم عطف عليه المستقبل الذي هو: {فتخطفه} و{تهوي} وإنما عدل في ذلك إلى المستقبل لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهوي الريح به والفائدة في ذلك ما أشرت إليه فيما تقدم، وكثيرا ما يراعى أمثال هذا في القرآن.
وأما الضرب الثاني الذي هو مستقبل فكقوله تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} فإنه إنما عطف المستقبل على الماضي لأن كفرهم كان ووجد، ولم يستجدوا بعده كفرا ثانيا، وصدهم متجدد على الأيام لم يمض كونه، وإنما هو مستمر يستأنف في كل حين، وكذلك ورد قوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير} ألا ترى كيف عدل عن لفظ الماضي هاهنا إلى المستقبل: فقال: {فتصبح الأرض مخضرة} ولم يقل فأصبحت عطفاً على ما أنزل، وذلك لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجوده، واخضرار الأرض باق لم يمض، وهذا كما تقول: أنعم علي فلان فأروح وأغدوا شاكرا له، ولو قلت: فرحت وغدوت شاكرا له، لم يقع الموقع لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى وهذا موضع حسن ينبغي أن يتأمل.
وإما الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل فهو عكس ما تقدم ذكره، وفائدته أن الفعل الماضي إذا أخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد، وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها.
والفرق بينه وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي أن الغرض بذاك تبيين هيئة الفعل واستحضار صورته، ليكون السامع كأنه يشاهدها، والغرض بهذا هو الدلالة على إيجاد الفعل الذي لم يوجد.
فمن أمثلة الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل قوله تعالى: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض} فإنه إنما قال: {ففزع} بلفظ الماضي بعد قوله: {ينفخ} وهو مستقبل للإشعار بتحقيق الفزع، وأنه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به.
وكذلك جاء قوله تعالى: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} وإنما قيل: {وحشرناهم} ماضيا بعد: {نسير} و{ترى} وهما مستقبلان للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليشاهدوا تلك الأحوال، كأنه قال: وحشرناهم قبل ذلك، لأن الحشر هو المهم، لأن من الناس من ينكره كالفلاسفة وغيرهم، ومن أجل ذلك ذكر بلفظ الماضي.
ومما يجري هذا المجرى الإخبار باسم المفعول عن الفعل المستقبل وإنما يفعل ذلك لتضمنه معنى الفعل الماضي وقد سبق الكلام عليه.
فمن ذلك قوله تعالى: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} فإنه إنما آثر اسم المفعول الذي هو: {مجموع} على الفعل المستقبل الذي هو يجمع لما فيه من الدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه الموصوف بهذه الصفة، وإن شئت فوازن بين قوله تعالى: {يوم يجمعكم ليوم الجمع} فإنك تعثر على صحة ما قلت.

.النوع الخامس: في توكيد الضميرين:

إن قيل في هذا الموضع: إن الضمائر مذكورة في كتب النحو، فأي حاجة إلى ذكرها هاهنا ولم نعلم أن النحاة لا يذكرون ما ذكرته.
قلت: إن هذا يختص بفصاحة وبلاغة، وأولئك لا يتعرضون إليه، وإنما يذكرون عدد الضمائر، وأن المنفصل منها كذا، والمتصل كذا، ولا يتجاوزون ذلك، وأما أنا فإني في هذا النوع أمرا خارجا عن الأمر النحوي، وأعني بقولي توكيد الضميرين أن يؤكد المتصل بالمنفصل، كقولك إنك أنت، أو يؤكد المنفصل بمنفصل مثله، كقولك أنت أنت، أو يؤكد المتصل بمتصل مثله، كقولك إنك إنك لعالم، أو إنك إنك لجواد.
وإنما يؤتى بمثل هذه الأقوال في معرض المبالغة، وهو من أسرار علم البيان.
ولنقدم في ذلك قولا يحصره ويجمع أطرافه، فنقول: إذا كان المعنى المقصود معلوما ثابتا في النفوس فأنت بالخيار في توكيد أحد الضميرين فيه بالآخر، وإذا كان غير معلوم، وهو مما يشك فيه، فالأولى حينئذ أن يؤكد أحد الضميرين بالآخر في الدلالة عليه، لتقرره وتثبته.
فما جاء من ذلك قوله تعالى: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين} فإن أراد السحرة الإلقاء قبل موسى لم تكن معلومة عنده، لأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم من ذلك، لكنهم لما عدلوا عن مقابلة خطابهم موسى بمثله إلى توكيد ما هو لهم بالضميرين اللذين هما نكون ونحن دل ذلك على أنهم يريدون التقدم عليه والإلقاء قبله، لأن من شأن مقابلة خطابهم موسى بمثله أن كانوا قالوا: إما أن تلقي وإما أن نلقي، لتكون الجملتان متقابلتين، فحيث قالوا عن أنفسهم: {وإما أن نكون نحن الملقين} استدل بهذا القول على رغبتهم في الإلقاء قبله.
وأما توكيد المتصل بالمتصل فكقوله تعالى في سورة الكهف: {فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} وهذا بخلاف قصة السفينة، فإنه قال فيها: {ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا} والفرق بين الصورتين أنه أكد الضمير في الثانية دون الأولى فقال في الأولى: {ألم أقل لك} وقال في الثانية: {ألم أقل لك إنك} وإنما جيء بذلك للزيادة في مكافحة العتاب على رفض الوصية مرة على مرة، والوسم بعدم الصبر، وهذا كما لو أتى إنسان ما نهيته عنه فلمته وعنفته، ثم أتى ذلك مرة ثانية، أليس أنك تزيد في لومه وتعنيفه؟ وكذلك فعل هاهنا، فإنه قيل في الملامة أولا: {ألم أقل إنك} ثم قيل ثانيا: {ألم أقل لك إنك} وهذا موضع يدق عن العثور عليه ببادرة النظر ما لم يعط التأمل فيه حقه.
وأما توكيد المتصل بالمنفصل فنحو قوله تعالى: {فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} فتوكيد الضميرين هاهنا في قوله: {إنك أنت الأعلى} أنفى للخوف من قلب موسى، وأثبت في نفسه للغلبة والقهر، ولو قال لا تخف إنك الأعلى أو فأنت الأعلى لم يكن له من التقرير والإثبات لنفي الخوف ما لقوله: {إنك أنت الأعلى} وفي هذه الكلمات الثلاث وهي قوله: {إنك أنت الأعلى} ست فوائد:
الأولى إن المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها، كقولك زيد قائم، ثم تقول إن زيدا قائم، ففي قولك إن زيدا قائم من الإثبات لقيام زيد ما ليس في قولك زيد قائم.
الثانية: تكرير الضمير في قوله: {إنك أنت} ولو اقتصر على أحد الضميرين لما كان بهذه المكانة في التقرير لغلبة موسى والإثبات لقهره.
الثالثة: لام التعريف في قوله: {الأعلى} ولم يقل أعلى ولا عال، لأنه لو قال ذلك لكان قد نكره، وكان صالحا لكل واحد من جنسه، كقولك: رجل، فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من الرجال، وإذا قلت الرجل فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف، وجعلته علما فيهم، وكذلك قوله تعالى: {إنك أنت الأعلى} أي دون غيرك الرابعة: لفظ أفعل الذي من شأنه التفضيل ولم يقل العالي.
الخامسة: إثبات الغلبة له من العلو، لأن الغرض من قوله: {الأعلى} أي الأغلب، إلا أن في الأعلى زيادة وهي الغلبة من عال.
السادسة: الاستئناف، وهو قوله تعالى: {لا تخف إنك أنت الأعلى} ولم يقل لأنك أنت الأعلى، لأنه لم يجعل علة انتفاء الخوف عنه كونه عاليا، وإنما نفى الخوف عنه أولاً بقوله: {لا تخف} ثم استأنف الكلام فقال: {إنك أنت الأعلى} فكان ذلك أبلغ في إيقان موسى عليه السلام بالغلبة والاستعلاء وأثبت لذلك في نفسه.
وربما وقع لبعض الأغمار أن يعترض على ما ذكرناه في توكيد أحد الضميرين بالآخر فيقول: لو كان توكيدهما أبلغ من الاقتصار على أحدهما لورد ذلك عند ذكر الله تعالى نفسه، حيث هو أولى بما هو أبلغ وأوكد من القول، وقد رأينا في القرآن الكريم مواضع تختص بذكر الله تعالى، وقد ورد فيها أحد الضميرين دون الآخر، كقوله عز اسمه: {قل الله مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} ولم يقل إنك أنت على كل شيء قدير، فما الموجب لذلك إن كان توكيد أحد الضميرين بالآخر أبلغ من الاقتصار على أحدهما؟ الجواب عن ذلك أنا نقول: قد قدمنا القول في أول هذا النوع أنه إذا كان المعنى المقصود معلوما ثابتا فصاحب الكلام مخير في توكيد أحد الضميرين بالآخر، فإن أكد فقد أتى بفضل بيان، وإن لم يؤكد فلأن ذلك المعنى ثابت لا يفتقر في تقريره إلى زيادة تأكيد، كهذه الآية المشار إليها وهي قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك} فإن العلم بأن الله على كل شيء قدير لا يفتقر إلى تأكيد يقرره، وقد ورد ما يجري مجرى هذا الآية مؤكداً، كقوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} فوكد هذه الآية ولم يوكد في الآية الأخرى، وقد عرفتك الطريق في ذلك، وأما ما إذا كان المعنى المقصود غير معلوم، وهو مما يشك فيه فالأولى أن يؤكد بالضميرين في الدلالة عليه، كقوله تعالى: {قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} فإن موسى لم يكن متيقنا أنه غالب للسحرة فلذلك وكد خطابه بالضميرين ليكون أبلغ في تقرير ذلك في نفسه.
وأما توكيد المفصل بمنفصل مثله فكقول أبي تمام:
لا أنت أنت ولا الديار ديار ** خف الهوى وتولت الأوطار

فقوله أنت أنت ولا الديار ديار من المليح النادر في هذا الموضع إلى آخر بيت الشعر الملك الهمام فقوله أنت أنت من توكيد الضميرين المشار إليهما، وفائدته المبالغة في مدحه، ولو مدحه بما شاء لما سد مسد قوله أنت أنت أي أنك المشار إليه بالفضل دون غيرك وأما قوله: وأنت منهم فخارج عن هذا الباب وهو كلام مستأنف لا يتعلق بتوكيد الضميرين كأنه قال: أنت الموصوف بكذا وكذا، وأنت من هذا القبيل يريد بذلك مدح قبيله به.
وهذا البيت لم أمثل به اختيارا له واستجادة، وإنما مثلت به ليعلم مكان توكيد المنفصل بالمنفصل، وإلا فالبيت ليس من المرضي، لأن سبكه سبك عار من الحسن وفيه تقديم وتأخير.
وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج أن عمرو بن ربيعة قال لزياد بن الهبولة: يا خير الفتيان، اردد علي ما أخذته من إبلي، فردها عليه وفيها فحلها، فنازعه الفحل إلى الإبل فصرعه عمرو، فقال له زياد: لقد أعطيت قليلا، وسمت جليلا، وجررت على نفسك ويلا طويلا، فقوله لكنتم أنتم أنتم أي أنتم الأشداء، أو الشجعان، أو ذوو النجدة والبأس، أو ما جرى هذا المجرى، إلا أن في أنتم الثانية تخصيصا لهم بهذه الصفة دون غيرهم، كأنه قال: لكنتم أنتم الشجعان لما بلغ هذه الكلمة، أعني أنتم الثانية وهذا موضع من علم البيان تتكاثر محاسنه فاعرفه.

.النوع السادس: في عطف المظهر على ضميره والإفصاح به بعده:

وهذا إنما يعمد إليه لفائدة وهي تعظيم شأن الأمر الذي أظهر عنده الاسم المضمر أولا، ومثال ذلك قول القائل: ولما تلاقينا وبنو تميم أقبلوا نحونا يركضون فرأينا منهم أسودا ثكلا تسابق الأسنة إلى الورود، ولا ترتد على أعقابها إذا ارتدت أمثالها من الأسود، وتناجد بنو تميم علينا بحملة، فلذنا بالفرار واستبقنا إلى تولية الأدبار، فإنه إنما قيل وتناجد بنو تميم مصرحا باسمهم ولم يقل وتناجدوا كما قيل أقبلوا للدلالة على التعجب من إقدامهم عند الحملة، وثباتهم عند الصدمة، لا سيما وقد أردف ذلك بقوله لذنا بالفرار، واستبقنا إلى تولية الأدبار كأنه قال: وتناجد أولئك الفرسان المشاهير والكماة المناكير، وحملوا علينا حملة واحدة فولينا مدبرين منهزمين.
ومما جاء من ذلك قوله تعالى: {أولم يروا كيف يبديء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة} ألا ترى كيف صرح باسمه في قوله: {ثم الله ينشيء النشأة الآخرة} مع إيقاعه المبتدأ في قوله: {كيف يبديء الله الخلق} وقد كان القياس أن يقول كيف يبديء الله الخلق ثم ينشيء النشأة الآخرة والفائدة في ذلك أنه لما كانت الإعادة عندهم من الأمور العظيمة، وكان صدر الكلام واقعا معهم في الإبداء، وقررهم أن ذلك من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، وإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لا يعجزه الإبداء، فوجب أن لا تعجزه الإعادة فللدلالة والتنبيه على عظم هذا الأمر الذي هو الإعادة أبرز اسمه تعالى، وأوقعه مبتدأ ثانيا.
وعلى هذا ورد قوله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} ألا ترى أنه قال أولا: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم} فذكر مضمرا تقدم الكلام فيه، ثم عطف المظهر الذي هو له وهو قوله: {ثم أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} وكان العطف لو أضمر كما أضمر الأول لقيل ثم أنزل الله سكينته عليكم وأنزل جنودا لم تروها وفائدة الإظهار هاهنا للمعطوف بعد إضماره أولاً التنويه بذكر رسول الله وذكر المؤمنين، أو لأن الأمر عظيم، وهو الانتصار بعد الفرار، فأي الأمرين قدر كان لإظهار المعطوف مناسبا، وهكذا يكون عطف المظهر على ضميره، فإنه يستند إلى فائدة يهم ذكرها، فإن لم يكن هناك مثل هذه الفائدة وإلا فلا يحسن الإظهار بعد الإضمار.
وكذلك جاء قوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين} فإنه إنما قال: {وقال الذين كفروا} ولم يقل وقالوا كالذي قبله للدلالة على صدور ذلك عن إنكار عظيم، وغضب شديد، وتعجب من كفرهم بليغ، لا سيما وقد انضاف إليه قوله: {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم} وما فيه من الإشارة إلى القائلين، والمقول فيه، وما في ذلك من المبادهة، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمردون بجزائتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق المبين قبل أن يتدبروه إن هذا إلا سحر مبين.
وعلى نحو من ذلك ورد قوله تعالى: {ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} وكان القياس أن يقال: وقالوا هذا ساحر كذاب، عطفاً على: {عجبوا} وإنما أتى باسم الكافرين مظهرا بعد إضماره للإشعار بتعظيم ما اجترءوا عليه من القول في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو لأن هذا القول كان أهم عندهم، وأرسخ في نفوسهم، فصرح باسم قائله دلالة على ما كان في أنفسهم منه.

.النوع السابع: في التفسير بعد الإبهام:

اعلم أن هذا النوع لا يعمد إلى استعماله إلا لضرب من المبالغة، فإذا جيء به في كلام فإنما يفعل ذلك لتفخيم أمر مبهم وإعظامه، لأنه هو الذي يطرق السمع أولاً فيذهب بالسامع كل مذهب كقول تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} ففسر ذلك الأمر بقوله: {أن دابر هؤلاء مقطوع} وفي إبهامه أولاً وتفسيره بعد ذلك تفخيم للأمر، وتعظيم لشأنه، فإنه لو قال وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع لما كان بهذه المكانة من الفخامة، فإن الإبهام أولاً يقع السامع في حيرة وتفكر واستعظام لما قرع سمعه، وتشوف إلى معرفته والاطلاع على كنهه.
وعلى نحو هذا جاء قوله تعالى: {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن أقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم} ففسر: {ما يوحى} بقوله: {أن اقذفيه} وهذا كالأول في إيهامه أولاً وتفسيره ثانيا.
ومثال هذا ورد قوله تعالى في سورة أم الكتاب: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} فإنه إنما قال ذلك ولم يقل اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم لما في الأول من التنبيه والإشعار بأن الصراط المستقيم هو صراط المؤمنين، فدل عليه بأبلغ وجه، كما تقول هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك تثبت ذكره مجملا ومفصلا، فجعلته علما في الكرم والفضل، كأنك قلت من أراد رجلا جامعا للخصلتين جميعاً فعليه بفلان.
فإن قيل ما الفرق بين عطف المظهر على ضميره وبين التفسير بعد الإيهام فإن المضمر كالمبهم.
فالجواب عن ذلك أني أقول: إن كان سؤالك عن فائدتهما فإنهما في الفائدة سواء، وذلك أنهما إنما يرادان لتعظيم الحال، والإعلام بفخامة شأنهما، وإن كان سؤالك عن الفرق بينهما في العبارة فإني أقول: المضمر يأتي بعد مظهر تقدم ذكره أولا، ثم يعطف المظهر على ضميره، أي على ضمير نفسه، كالمثال الذي ضربناه في بني تميم، وأما التفسير بعد الإبهام فإن المبهم يقدم أولا، وهو أن يذكر شيء يقع عليه محتملات كثيرة، ثم يفسر بإيقاعه على واحد منها، وليس كذلك عطف المظهر على ضميره.
ومما جاء في التفسير بعد الإبهام قوله تعالى: {وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} ألا ترى كيف قال: {أهدكم سبيل الرشاد} فأبهم سبيل الرشاد ولم يبين أي سبيل هو، ثم فسر ذلك فافتتح كلامه بذم الدنيا وتصغير شأنها، ثم ثنى ذلك بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها، ثم ثلث بذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما، ليثبط عما يتلف، وينشط لما يزلف، كأنه قال: سبيل الرشاد هو الإعراض عن الدنيا، والرغبة في الآخرة، والامتناع من الأعمال السيئة خوف المقابلة عليها، والمسارعة إلى الأعمال الصالحة رجاء المجازاة عليها.
وكذلك ورد قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} فإنه إنما قال: {القواعد من البيت} ولم يقل قواعد البيت لما في إبهام القواعد أولاً وتبيينها بعد ذلك من تفخيم حال المبين ما ليس في الإضافة.
ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى} فإنه أراد تفخيم ما أمل فرعون من بلوغه أسباب السموات أبهمها أولاً ثم فسرها ثانيا، ولأنه لما كان بلوغها أمرا عجيباً أراد أن يورده على نفس متشوفة إليه، ليعطيه السامع حقه من التعجب فأبهمه ليشوف إليه نفس هامان ثم أوضحه بعد ذلك.
وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} فإنه قال أولا: {أعظكم بواحدة} فأبهم الواحدة، ثم فسرها بقوله: {أن تقوموا لله مثنى وفرادى وأن تتفكروا} وهذا في القرآن الكريم كثير الاستعمال.
وأما الإبهام من غير تفسير فكثير شائع في القرآن الكريم أيضاً كقول تعالى:: {وفعلت فعلتك التي فعلت} وكذلك ورد قوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} أي للطريقة أو الحالة أو الملة التي هي أقومها وأسدها وأي ذلك قدرت لم تجد له مع الإفصاح ذوق البلاغة التي تجده مع الإبهام، وذلك لذهاب الوهم فيه كل مذهب، وإيقاعه على محتملات كثيرة.
وهذا كقول القائل لو رأيت عليا بين الصفين فإنه لو وصفه مهما وصف من نجدة وشجاعة وثبات وإقدام وأطال القول في ذلك لم يكن بمثابة ما يترامى إليه الوهم مع الإبهام، وهذا للعارف برموز هذه الصناعة وأسرارها.
وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى: {فغشيهم من اليم ما غشيهم} وأبلغ من ذلك قوله تعالى: {والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى} فإنه قال في تلك الآية: {فغشيهم من اليم ما غشيهم} فذكر اليم، وهو البحر، فصار الذي غشيهم إنما هو منه خاصة، وقال في هذا الآية: {فغشاها ما غشى} فأبهم الأمر الذي غشاها به وجعله عاما وذلك أبلغ، لأن السامع يذهب وهمه فيه كل مذهب.
وأما ما جاء من ذلك شعرا فكقول البحتري:
بعيد مقيل الصدر لا يدرك التي ** يحاولها منه الأريب المخادع

فقوله التي يحاولها من الإبهام المقدم ذكره في الآية.
ومما ينتظم بذلك قول الشاعر في أبيات الحماسة:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ** فلما علاه قال للباطل أبعد

فقوله صبا ما صبا من الإبهام الذي لو قدرت ما قدرت تفسيره لم تجد له من فضيلة البيان ما تجد له مع الإبهام.
وعليه ورد قول أبي النواس:
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ** وأسمت سرح اللحظ حين أساموا

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ** فإذا عصارة كل ذاك أثام

فقوله وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه من هذا النمط المشار إليه، وهو من المليح النادر ومما يجري على هذا النهج قول الآخر في وصف الخمر:
مضى بها ما مضى من عقل شاربها ** وفي الزجاجة باق يطلب الباقي

والكلام على هذا البيت كالكلام على البيت الذي قبله.
ومثله ورد قول بعض المتأخرين: فؤاد فيه ما فيه.
وعلى هذا ورد قولي في فصل من تقليد لبعض الوزراء، فقلت: وأنت مؤهل لواحدة متخلق لها غرر الجياد، وتناديها العلياء بلسان الإحماد وتفخر بها سمر الأقلام على سمر الصعاد، فابسط يدك لأخذ كتابها، واسمع لطيب ذكرها بعد سعيك في طلابها واعلم أن الخطاب إليها كثير لكنها صدت بك عن خطابها، ولقد مضى عليها زمن وهي تفور حتى استقادها تأنيسك، ولم تسبق الأقدار باسمك إلا لتكون سليمانها وهي بلقيسك.
وهذا الوزير كان اسمه سليمان، فسقت المعنى إليه، فجاء كما تراه من الحسن واللطافة.
أما قولي وأنت مؤهل لواحدة فإنه من الإبهام من غير تفسير، وذلك بخلاف ما ورد في الآية المقدم ذكرها، لأن تلك من التفسير بعد الإبهام.
ومما ينتظم في هذا السلك الاستثناء العددي، وهو ضرب من المبالغة لطيف المأخذ، وفائدته أن أول ما يطرق سمع المخاطب ذكر العقد من العدد، فيكثر موقع ذلك عنده، وهو شبيه بما ذكره من الإبهام أولاً ثم التفسير بعده ثانيا، وذلك كقول القائل: أعطيته مائة إلا عشرة أو أعطيته ألفا إلا مائة، فإن ذلك أبلغ من أن لو قال: أعطيته تسعين أو تسعمائة.
وعليه ورد قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} ولم يقل تسعمائة وخمسين عاما، لفائدة حسنة، وهي ذكر ما ابتلى به نوح من أمته، وما كابده من طول المصابرة، ليكون ذلك تسلية لرسول الله فيما يلقاه من أمته وتثبيتا له، فإن ذكر رأس العدد الذي هو منتهى العقود وأعظمها أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدة صبره وما لاقاه من قومه.